حتى كتابة هذا المقال فإن المجتمع الدولي بدا مستاءً جدّاً مما آلت إليه الأمور في ليبيا. فالجامعة العربية علقت مشاركة ليبيا في اجتماعات مؤسساتها احتجاجاً على استخدام العنف ضد المتظاهرين الليبيين إلى حين الاستجابة لمطالب الجامعة العربية بوقف العنف، وبما يضمن تحقيق أمن الشعب الليبي واستقراره. كما ندد بيان الجامعة بالجرائم التي ارتُكبت ضد التظاهرات والاحتجاجات الشعبية السلمية الجارية في بعض المدن الليبية. وأدان البيان استخدام مرتزقة في مواجهة المتظاهرين. كما شجب الأمين العام لمجلس التعاون الخليجي أعمال العنف التي يرتكبها النظام الليبي ضد أبناء الشعب الليبي وقال إنها أعمال تفتقد إلى أبسط القيم الإنسانية، وتتنافى مع الكرامة وحقوق الإنسان؛ داعيّاً إلى وقفة عربية ودولية عاجلة لمناصرة الشعب الليبي. كما عقد مجلس الأمن الدولي اجتماعاً طارئاً يوم الثلاثاء قبل الماضي خُصص لبحث أعمال العنف ضد المتظاهرين الليبيين. وعبّر الأمين العام للأمم المتحدة عن "صدمته" حيال ورود أنباء عن إطلاق قوات الأمن الليبية النار على المتظاهرين من طائرات حربية ومروحيات. كما حذرت المفوضية العليا لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة من أن ما ترتكبه السلطات الليبية من هجمات منظمة ضد السكان المدنيين يمكن اعتباره "جرائم ضد الإنسانية"؛ وطالبت بفتح "تحقيق دولي مستقل حول هذه الممارسات التي ترتكبها السلطات الليبية". وفي واشنطن، هاتفَ الرئيس الأميركي المستشارة الألمانية بداية هذا الأسبوع، وأشار إلى أنه حان الوقت كي يرحل القذافي، مشيراً إلى أنه "حينما لا تكون لدى زعيم من وسائل البقاء إلا استخدام العنف الشامل ضد شعبه، فإنه يكون قد فقد الشرعية في أن يحكم وينبغي أن يفعل الشيء الصواب للبلاد من خلال المغادرة الآن". كما أيدت "ميركل" مطالب الشعب الليبي وحصوله على كافة حقوقه، وضرورة محاسبة القذافي على ما ارتكبه ضد شعبه.
وكانت ليبيا قد شُطرت نصفين؛ بعد تمكن الثوار من بسط سيطرتهم على شرق البلاد؛ في الوقت الذي انضمت فيه قبائل -عوّل عليها القذافي في الوقوف إلى جانبه؛ بعد أن عزفَ خلال لقائه التلفزيوني الأول على هذا الوتر- إلا أنها أعلنت تأييدها للثورة. ويجري هذا في الوقت الذي تخلى فيه معظم السفراء والدبلوماسيين الليبيين عن مناصبهم وأبدوا تأييدهم للثورة. وبعيداً عن اللهجة غير الموفقة التي ظهر بها القذافي على شعبه، ووصفه لخصومه بأنهم "جرذان" و"وجوههم قذرة" و"مقملون" وغيرها من الألفاظ غير اللائقة بالشعب الليبي العظيم الذي قاد أجدادهُ المقاومة المعروفة في مواجهة الاحتلال الأجنبي، فإن استمرار التهديد من قبل القذافي وأبنائه باستخدام القوة ضد إرادة الشعب الليبي لا يمكن أن يمهد الطريق لأي حوار حول مستقبل ليبيا، خصوصاً بعد أن كشف قادة ليبيون مخازن أسلحة فيها رؤوس للدمار الشامل! وأعلنوا وقوفهم مع الشعب الليبي في ثورته. في ذات الوقت الذي تقوم فيه "كتائب القذافي" بأعمال تصفية جسدية مكثفة ضد المتظاهرين في طرابلس، كما سجلت وسائل إلكترونية صورَ سحلِ "الكتائب الأمنية" لجثة مواطن من منطقة سوق الجمعة في طرابلس ومن ثم إخفاء جثته. كما قام القذافي بحشد مؤيديه للوقوف دون تقدم المتظاهرين المطالبين برحيله من العاصمة طرابلس.
وفي الوقت الذي أعلنت فيه الجهات الدولية مثل "برنامج الأغذية العالمي" أن الشعب الليبي يكافح حالات نقص الغذاء والوقود والإمدادات الطبية، قامت بعض الدول العربية والصديقة بتسيير رحلات إلى ليبيا لنقل مواد الإغاثة والأدوية للشعب الليبي، وهو الشعب الذي يعيش في دولة نفطية غنية! إلا أن حكماً استمر أكثر من 40 عاماً لم ينصفه ولم يهيئ له الحياة الكريمة، ولم تتحقق أية برامج تنمية! في الوقت الذي بدد فيه المتنفذون من أبناء القذافي ثروة بلادهم في أوروبا وباتوا يعرفون بـ"ملوك الليل"!
وفي الوقت الذي يريد فيه العالم بأسره حقن الدماء ووقف سيل العنف ضد أبناء الشعب الليبي ظهر يوم السبت الماضي ابن القذافي سيف الإسلام مهدداً بأن استمرار "الاضطرابات" التي تشهدها ليبيا يجعل جميع الخيارات مفتوحة بما في ذلك نشوب حرب أهلية واحتمال تدخل أجنبي. وقد تجاهل حقيقة الموقف في بلاده معتبراً أن "الهدوء قد حل في ليبيا"؛ وأن الدولة "سيطرت على مدن في شرق البلاد"، وأنه "تلقى مئات المكالمات الهاتفية من السكان في بنغازي يستغيثون من تردي أوضاعهم المعيشية". والقذافي الآن بين معضلة (حفظ ماء الوجه، وحفظ الوطن)! وكلاهما أمران أحلاهم مرُّ!.
وإذا جاز لنا التعليق على هذه المسرحية -التي ما زال النظام في طرابلس يعرضها على العالم- فربما تجدر الإشارة إلى أموال ليبيا المهرّبة إلى الخارج وآخرها ما أكدته صحيفة "تايمز" البريطانية من أن القذافي قام بتحويل خمسة مليارات دولار إلى حسابه لدى مؤسسة استثمارية في لندن. وأضافت الصحيفة: "لم يكن هنالك فصل كامل بين ثروة الأسرة الحاكمة والاقتصاد الوطني في ليبيا"! كما كشفت عن مواطن فساد حيث مكّن القذافي مقربين منه من عقد صفقات تجارية كبيرة في النفط والغاز والاتصالات والفنادق.
إن العقل يقول إنه لابد للقذافي من الرحيل صوناً لأرواح أبناء ثورته! وإن كان قد تحدث بأنه زعيم ثورة وليس حاكماً، فإن هذه الثورة لم تحفظ أبناءها ولا أحفادها! لأن النفق المظلم الذي أدخل القذافي فيه ليبيا، لم يكن يليق بها ولا بأبنائها. وإذا ما استمر "هيجان" العظمة واستخدم النظام الأسلحة الكيماوية ضد المتظاهرين العزل؛ فإن التاريخ سوف يضيف صفحات سوداء داكنة في سجل الثورات العربية التي لم يحصل منها المواطن إلا على الخوف والفقر والذل.
والخطورة في المثال الليبي الحالي تكمن في خطورة التناحر القبلي وعدم سيطرة الدولة على شرق وجنوب البلاد! وعدم وجود دستور يحتكم إليه المختلفون! ولقد حذّر خبراءُ من أن سقوط القذافي سيترك "فراغاً هائلاً" وخطيراً، لأن البلد يفتقد إلى المؤسسات المدنية على رغم توفر النفط الهائل؛ وعدم الولاء للوطن والدولة قدرَ الولاء للقبيلة. وهذا ما يتوجب على بعض الأنظمة العربية الأخرى أن تلتفت إليه! لأن وجود المواطن المدني -الذي يُؤثر الوطنَ على القبيلة والعائلة- هو صمام الأمان لأية منغصات سياسية في المستقبل. ولن يكون النفط في ليبيا نقطة توحّد وقوة! وسيكون مرتكز الأمن في هذا البلد مدى تماسك القبائل ودعمها للثورة واستتباب الأمن.